الأحد، 13 مارس 2011

فقه الجهاد/ د. مريم الصادق المهدى


بسم الله الرحمن الرحيم
فقه الجهاد
25/8/2010م
مقدمة: أشكر نادي المريخ على دعوتي للمساهمة في نشاطه الثقافي. وهذا هو التنافس الحميد الذي عن طريقه تتطور الحياة كلها (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ). لأن التدافع من سنن الكون ومن مقاصد الشريعة: (وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ)[1].
إن للحديث عن فقه الجهاد أهمية خاصة لأن الدخول في أعمال عنف باسم الجهاد دون فقه أي بيان لمعناه إثم عظيم. الحقيقة أن كل هذه المقاصد النبيلة كتطبيق الشريعة، أو خوض الجهاد؛ دون فقه الواجب في الأمر، ثم معرفة الواقع؛ يأتي بنتائج عكسية. وكل أمر يحقق عكس مقاصده -كما قال العز بن عبد السلام- باطل.
1.     أنواع الجهاد
الأول: جهاد النفس الأمارة بالسوء. قال الإمام الغزالي عن هوى النفوس، في منهاج العابدين إن النفس الإنسانية:
-         في حالة الشهوة بهيمية .
-         وفي حالة الغضب سبع.-         وفي حالة المعصية كطفل صغير.-         وفي حالة النعمة فرعونا.-         وفي حالة الجوع مجنونا.-         وفي حالة الشبع مختالا.أي أن الإنسان في أحواله المختلفة يواجه نفسا يلزمه ترويضها لكيلا تدفعه نحو موارد التهلكة. وفي هذا جهاد عظيم عبر عنه الشاعر بقوله:
نفسي إلى ما ضرني داعي       تهيــج آلامــــي وأوجاعي
كيف احتيالي مــــن عدوي       إذا كان عدوي بين أضلاعي
وفي هذا الصدد روى حديث وإن كان ضعيف السند فإنه قوي المعنى، قال النبي صلى الله عليه وسلم عندما عاد من إحدى المعارك: " قدِمْتُمْ خَيْرَ مَقْدَمٍ مِنَ الْجِهَادِ الْأَصْغَرِ إِلَى الْجِهَادِ الْأَكْبَرِ"[2] أي من جهاد العدو لجهاد النفس.
المعنى الثاني للجهاد: هو الجهاد بالكلمة، وبالمال، وسائر الوسائل المدنية أو ما يسمى بالقوة الناعمة وهو الذي كان عليه المسلمون في مكة. وهو جهاد قال عنه تعالى مشيرا للقرآن: (فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا)[3]. وهو جهاد حقيقي فقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم أي الجهاد أفضل؟ قال: " أفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ"[4].
المعنى الثالث: هو الجهاد بمعنى القتال. وهذا النوع هو الذي اشتهر من معاني الجهاد وغطى على الأنواع الأخرى حتى أن كثيرا من كتاب السيرة النبوية سموها المغازي وهذا خطأ كبير في وصف سيرة النبي صلى الله عليه وسلم فقد حقق أهم منجزاته بالقوة الناعمة: أقام دولته في المدينة سلميا. واستمال الجزيرة العربية لدعوته في عامي صلح الحديبية، وفتح مكة سلميا.
هنالك أخطاء أخرى وقع فيها كثير من كتاب السيرة النبوية إذ صوروه شهوانيا يتزوج طفلة بنت تسع سنين. ويطوف على نسائه التسع في الليلة الواحدة وغيرها من دلائل الشهوانية. وهي روايات باطلة ولكنها زودت أعداء الإسلام بسهام سامة.
وكثير من كتاب السيرة جاروا بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم سيرة عيسى عليه السلام من حيث المعجزات. مع أنه تعالى قال: (وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ)[5].
حقيقة وصفها البصيري:
لــــم يمتحنا بما تعي العقول به            حرصا علينا فلم نرتب ولم نهم
لذلك صارت الحاجة لكتابة جديدة للسيرة النبوية تجلي حقائقها وتنفي عنها الأباطيل.
2.      الجهاد القتالي هل هو دفاعي أم هجومي؟ وعلته أي الدافع إليه هل هو الكفر أم العدوان؟ قال مفسرون إن الجهاد هجومي أي على المسلمين أن يبادروا بالقتال، وعلته الكفر؛ أي علينا أن نبادل بقتال الكفار.
ومع أن في القرآن آيات كثيرة تزيد عن 150 آية تمنع القتال إلا ردا على العدوان أمثال قوله تعالى: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ)[6]. وقوله: (وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ)[7]. كما أن آيات التسامح في القرآن كثيرة مثلا قال تعالى: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)[8]. وقال: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ)[9]. وغيرها.. مع ذلك قالوا: إن آيات التسامح هذه نـُسخت، نسختها آية السيف.
هنالك 3 آيات أطلقوا عليها صفة آية السيف هي:
·   الآية الخامسة من سورة التوبة ونصها: (فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).
·   الآية 29 من نفس السورة ونصها: (قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ).·        الآية 39 من نفس السورة ونصها: (وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ).هذا فهم ناقص للقرآن غاب عنه قوله تعالى: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ؟)[10] وإذا تدبرنا القرآن لفقهنا وفهمنا مقاصده.
·    الآية الخامسة من سورة التوبة سبقتها الآية الرابعة ونصها: (إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ)وتلتها الآية السادسة ونصفها: (وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ).
أي أن الآية الخامسة ليست مطلقة بل مقيدة.·   والآية 29 لا تقرأ معزولة فقد قال تعالى عن أهل الكتاب: (لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ)[11] وقال عنهم: (وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ).أما الآية 39 فهي لا تنص على قتال هجومي بل تأمرنا أن نقاتلهم كافة كما يقاتلونا كافة. أي المعاملة بالمثل. الحقيقة هي أن القتال في الإسلام ليس سببه الاختلاف في الدين ولكن علته المبررة له هي العدوان وهذا المعنى أوضحته تماما الآية 13 من نفس سورة التوبة ونصها: (أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)[12]
3.  بالمقاييس الشرعية ما هي صحة القتال الجهادي الذي خاضته المهدية في السودان؟ وجهاد نظام "الإنقاذ"؟ وجهاد القاعدة؟ وجهاد حزب الله؟ وجهاد حماس؟
أ. وقبل أن نجيب على صحة جهاد المهدية يجب أن نجيب على سؤال: ما هي صحة الدعوة نفسها؟
القرآن لم يذكر شيئا عن المهدية. ولكنه ذكر وظيفة الهداية قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)[13]. وقال تعالى: (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ)[14] وقال: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ)[15].أما الحديث فقد أخرج جماعة من أئمة الحديث أحاديث عن المهدية منهم: الترمذي، وأبوا داود، والبزاز، وابن ماجة، والحاكم، والطبراني، وأبو يعلي، والموصلي. وأسندوها إلى جماعة من الصحابة هم: علي، وابن عباس، وطلحة، وابن مسعود، وأبو هريرة، وأبو سعيد الخدري، وأم حبيبة، وأم سلمة وغيرهم.
تعرض بعض النقاد لهذه الأحاديث ولكن سلم من النقد حديث رواه الحاكم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُمْلَأَ الْأَرْضُ ظُلْمًا وَجَوْرًا وَعُدْوَانًا، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي مَنْ يَمْلَأَهَا قِسْطًا وَعَدْلًا كَمَا مُلِئَتْ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا"[16] قال الحاكم هذا صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. أي أن القرآن والسنة ذكرا حالة فساد عام ووظيفة إصلاح لذلك الفساد.
الفرق الإسلامية بلورت عشر مدارس في أمر المهدية أهمها مدرستان: شيعية وهي الاثني عشرية، وسنية وهي القائلة بظهوره في آخر الزمان.
كل الذين كذبوا مهدية الشيخ محمد أحمد صبوا حجتهم في أنه ليس الإمام الثاني عشر الشيعي، وأنه ليس صاحب آخر الزمان. والمدهش حقا أن الإمام المهدي في السودان لم يقل أبدا أنه الإمام الثاني عشر، ولم يقل أبدا أنه جاء نذير آخر الزمان. والحقيقة أن ظهور السيد محمد الحسن العسكري الذي اختفى منذ 12 قرنا هو ذاته مرة أخرى أمر غير وارد لبشر ولم يزعم أحد أنه غير بشر.
والحقيقة كذلك أن تأخير دعوة البعث الديني إلى آخر الزمان رغم انتشار الظلم والفساد غير معقول ولا معنى له لأن الله تعالى يقول: (هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ)[17]. وقال تعالى: (فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ)[18]. أي لا معنى للحديث عن هداية في وقت ظهور بعض آيات ربك.
إذن هنالك ظروف وظيفية موضوعية للمهدية: أن يعم الفساد والظلم، وأن تقوم دعوة من باب إحياء الكتاب والسنة. وظرف ذاتي: أن يقوم شخص ذو مصداقية من حيث قوة إيمانه وأمانته ويذكر أنه خوطب روحيا لبعث هداية الدين. شخص هداه الله وهدى به. هذه الصفة الوظيفية هي التي قام بها الإمام المهدي. وهي الصفة التي أدركها كثيرون من العلماء أمثال أحمد العوام في كتابه نصيحة العوام. ود. عبد الودود شلبي بقوله: "كانت حركة تمثلت فيها كل حركات الإصلاح في عصره"[19].
الدعوة المهدية وظيفية ومن أهم فضائل الإمام المهدي للإسلام أنه حرر عقيدة المهدية من خصوصية نسبية مستحيلة، ومن خصوصية زمانية مستحيلة كذلك، وقدمها على أساس وظيفي يتعلق بالحاجة للإصلاح وبضبط خطة الإصلاح بمقاصد الكتاب والسنة. وتاريخ الدعوة يؤكد أنه سعى للإصلاح بالوسائل السلمية ولكن السلطات القائمة الفاقدة لأية شرعية بالمقاييس الإسلامية اعتدت عليه فقاتلهم جهادا شرعيا ردا للعدوان حتى سقطت دولتهم.
4. ولكن الجهاد القتالي في ظروف معينة قد يكون انتحارا إذا لم يسمح به توازن القوى كما كان حال النبي صلى الله عليه وسلم في مكة وقوله تعالى: ( كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاةَ)[20]. وعندما منع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من أداء العمرة وأبرم صلح الحديبية.
هذا النهج هو الذي اتخذه الإمام عبد الرحمن في فترة لاحقة فاستخدم أسلوب القوة الناعمة على نحو ما وصفه الشاعر القومي علي عكير:
جهاد المهدي سيف سلاه يلمع ضاوي
حكمو في الرقاب الفى الشرع بتلاوي
وأنـت جــهادك الليــن بالهداية تــداوي
مختلفة السيــوف إلا الضرب متساوي
5. وفي ظروف لاحقة اندلعت في السودان حرب أهلية. إن الدولة محقة في مواجهة الذين يخرجون عن القانون. ولكن ما مشروعية أن يسمى ذلك جهادا؟
·   إن القتال بهدف إخضاع ثوار للقانون والنظام -وهو واجب دستوري وقانوني- لا يجوز تسميته جهادا بدليل أنه انتهى إلى سلام سياسي بموجب اتفاقية السلام. ولكن تسمية الإجراء جهادا أتى للدولة بنتائج عكسية لأنه أعطى مشروعية لاستنصار الثوار بالمسيحيين في دول الجوار وفي العالم، وفي هذا الصدد فإن ميزان القوى الدولي في غير صالح الذين أعلنوا الجهاد، وفي النهاية جاء بنتائج عكسية.
·   أما القاعدة فإن قتالها في أفغانستان ضد الاحتلال السوفيتي كان جهادا شرعيا لأنه رد لعدوان. ولكن إعلان أن من واجب المسلمين في كل مكان قتل الأمريكي العسكري أو المدني بلا فرز ففتوى غير صحيحة لأن القتال في الإسلام له ضوابط هي صد العدوان، واستثناء المدنيين من القتل. أما تكفير الدول المسلمة واستخدام العنف ضد مواطنيها فترعيب تمنعه الشريعة ومع توازن القوى يأتي بنتائج عكسية والمجال هنا لاستخدام القوة الناعمة أي الجهاد المدني لا الاغتيالات والتفجيرات.·   أما طالبان في أفغانستان، وحركة الشباب في الصومال، وقتال حزب الله لإسرائيل، والمقاومة العراقية للاحتلال، وقتال حماس في فلسطين؛ فهذه مواقف جهادية مشروعة لأنها تصد عدوانا أجنبيا.والنتيجة: إن صد العدوان قتالا جهاد مشروع، وأي استخدام للعنف في غير صد للعدوان وفي غير مراعاة للضوابط الشرعية فهو إرهاب لا يجوز أن يتمسح بصفة الجهاد.
قال أبو بكر رضي الله عنه موجها يزيد المتوجه للقتال: وإني موصيك بعشر: "لَا تَقْتُلَنَّ امْرَأَةً، وَلَا صَبِيًّا، وَلَا كَبِيرًا هَرِمًا، وَلَا تَقْطَعَنَّ شَجَرًا مُثْمِرًا، وَلَا تُخُرِبَنَّ عَامِرًا، وَلَا تَعْقِرَنَّ شَاةً،  وَلَا بَعِيرًا إِلَّا لِمَأْكَلَةٍ، وَلَا تَحْرِقَنَّ نَخْلًا، وَلَا تُغَرِّقَنَّه، وَلَا تَغْلُلْ، وَلَا تَجْبُنْ"[21].
إن القاعدة الذهبية في أمر القتال في الإسلام: (وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ)[22]. وفي غير حالة العدوان فالقاعدة: (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)[23]
6. في بلادنا وفي كثير من بلدان العالم الإسلامي انتشر تلويث للدين أصحابه يكفرون المسلمين بفتاوى ذاتية وعند هؤلاء إن الكفر علة لاستباحة الدماء. هؤلاء يشكلون خطرا دينيا، وسياسيا، وأمنيا. الفتاوى ينبغي أن تضبط بقانون، والردة في حالة وقوعها لا تكون إلا ضمن آلية شرعية. وحتى في حالة حدوثها فلا تترتب عليها عقوبة دنيوية لأنه (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)[24] أما الذين يكفـّرون كما يتنفسون ويهدرون الدماء فهؤلاء هم الخوارج الجدد؛ لا شك في إخلاص كثير منهم ولكنه إخلاص أعمى قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: "يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلاَتَهُ مَعَ صَلاَتِهِمْ، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ، يَقْرَءُونَ القُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ "[25].
لا بد من قوانين صارمة تضبط الفتاوى وتجرم التكفير وتردع استباحة الدماء. إن من أهم مطالب المحافظة على وحدة البلاد حسن إدارة التنوع الفكري، والديني، والثقافي. هؤلاء التكفيريون عقبة كأداء في حسن إدارة التنوع وينبغي ونحن في مفرق طريق هام في مصير بلادنا تنقية القضية الدينية والقضية الوطنية من أسباب تمزيق الوطن وفتح النوافذ للتدخل الأجنبي.
7. كثير من القادة يقولون إن الحرب قد انتهت ولن تعود. الحرب لا تقع إلا نادرا نتيجة لقرار أحد الأطراف بخوض الحرب ولكنها تقع نتيجة لاتخاذ مواقف تحكمية واتهامات متبادلة وسوء تقدير لقوتك ولقوة خصمك. وللأسف الساحة السودانية الآن حاشدة بهذه المفردات.
أكثر الحروب التي خاضتها الأطراف من الممكن تحاشيها إذا توافر الوعي وإرادة السلام هذا ما يجب علينا عمله عاجلا فإن الحرب أولها كلام.
هذه المحاضرة مساهمة في بيان فقه الجهاد لكيلا يدفع الهوس بعضنا لجر البلاد إلى فتن كقطع الليل باسم الجهاد، الذي سماه النبي صلى الله عليه وسلم ذروة سنام الإسلام؛ وهو كذلك بذلا للطاقة كلها في إعلاء هداية الله بوسائل إصلاح النفوس وإصلاح المجتمعات بالقوة الناعمة، والتربية القتالية المستمرة دفاعا عن النفس إذا دعا الداعي.

والله ولي التوفيق

 


[1] سورة البقرة الآية (251)[2] الزهد الكبير للبيهقي [3]  سورة الفرقان الآية (52)[4] سنن أبو داود [5]  سورة الإسراء الآية (59)[6]  سورة الحج الآية (39)[7]  سورة البقرة الآية (190)
 [8]  سورة البقرة الآية (256)[9]  سورة النحل الآية (125)[10]  سورة محمد الآية (24)[11] سورة آل عمران الآية (113)
[12] سورة التوبة الآية (13)
[13]  سورة المائدة الآية (54)[14] سورة الحج الآية (41)[15]  سورة الأنبياء الآية (105)[16]  المستدرك على الصحيحين للحاكم [17] سورة الأنعام الآية  158[18] سورة غافر الآية 85[19]
[20]  سورة النساء الآية (77)[21] السنن الصغير للبيهقي
[22]  سورة البقرة الآية (190)[23] سورة الممتحنة الآية (8)[24]  سورة البقرة الآية (256)[25]  صحيح بخاري

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق