مزرعة الحيوانات الجزء السابع
الفصل السابع
كان الشتاء قارصاً وقاسيا، وكان شديد الوطأة، فقد حملت العواصف معها بَرَداً فصقيعاً ثم ثلجاً، واستمر الطقس سيئاً حتى وقت متأخر من شهر فبراير. وعلى الرغم من ذلك واصلت الحيوانات بناء الطاحونة، ولم تدخر جهدا في سبيل انجاز ما نوت عليه.. وهي تعلم أنها أصبحت محط أنظار العالم الخارجي، وأن المزارعين الحاقدين سوف يرقصون فرحاً إن لم تُنجز الطاحونة في الوقت المحدد.وقد شكك جيران المزرعة في صحة اتهام سنوبول بهدم الطاحونة، وقالوا إنها تداعت بسبب ضعف جدرانها، لكن الحيوانات لم تعترف قط ببراءة سنوبول. ومع ذلك تقرر بناء الجدران بسمك ثلاثة أقدام بدلاً من قدم ونصف كما كان في المرة السابقة.. الأمر الذي ترتب عليه أعمالاً إضافية بسبب الحاجة لجمع كميات أكبر من الصخور. وتحملت الحيوانات وطأة العمل وشدته تحت ظروف طقس قارس، وفقدت الأمل الذي كان يمدها بالقوة، وكانت دائمة الشعور بالبرد والجوع. بوكسر وكلوفر هما الوحيدان اللذان لم يتسلل اليأس إلى قلبيهما. وعلى الرغم من أن نابولين واصل إلقاء خطبة الرائعة عن حب العمل وشرف الكد، إلا أن الحيوانات كانت تجد السُّلْوَانَ في قوة بوكسر وحكمته الخالدة "سأعمل بجهد أكبر"!
***في شهر يناير، تعرضت المزرعة لنقص حاد في المُؤْنَة، وخُفضت حصص الذرة بنسبة كبيرة، وأعلن عن زيادة حصة البطاطا تعويضاً عن ذلك النقص. ثم تبين أن معظم مخزون البطاطا أصابه الصقيع وأصبح فاسداً لا يصلح للأكل. وأمضت الحيوانات أياماً لا تأكل سوى العشب والبنجر، وبدت المزرعة وكأنها على وشك التعرض لمجاعة ستطال الجميع ولن ينجو أحد من الموت جوعا. كان من الأهمية بمكان إخفاء هذه الحقيقة عن العالم الخارجي.. ولاسيّما أن المزارعين أخذوا، بعد هدم الطاحونة، يروجون إشاعات وأكاذيب عن مزرعة الحيوان! فقد أشاعوا ثانية أن الحيوانات تعاني أمراضا فتاكة، وأنها في حالة قتال دائم بعد أن دفع الجوع بعضها إلى أكل لحم بعضها الآخر ووأد صغارها! كان نابولين يدرك جيدا التداعيات السلبية التي ستترتب على انتشار الخبر ومعرفة العالم الخارجي حقيقة الوضع المعيشي في المزرعة، فقرر الاستفادة من ويمبر لإشاعة انطباعات مغايرة تدحض إشاعات جيران المزرعة! كان اتصال الحيوانات بـ"ويمبر" خلال زياراته الأسبوعية حتى الآن معدوماً أو في أضيق الحدود. بيد أن الأمر استدعى هذه المرة التعامل معه على نحو مختلف بهدف نقل رسالة إلى الخارج تؤكد أن المزرعة ليست على وشك التعرض للمجاعة، وأن كل ما قيل وأشيع ليس سوى أكاذيب مغرضة. وقع الاختيار على عدد من الحيوانات.. اغلبها خراف. وأوعز لها نابليون بإبداء ملاحظات على مسمع بويمبر تفيد بزيادة حصص الطعام. وبالإضافة إلى ذلك أمر نابليون بملء صناديق المؤنة الفارغة تماماً بالتراب إلى حوافها ثم جرى تغطيتها بما تبقى من الحبوب والغِلاَل. وخلال زيارته الأسبوعية اصطحب نابولين ويمبر بذرائع مناسبة في جولة شملت مخزن المؤنة، وسَمَحَ له بإلقاء نظرة خاطفة على الصناديق؛ فوقع ويمبر فريسة الخداع وواصل نقل أخبار المزرعة إلى العالم الخارجي مؤكداً أن مزرعة الحيوان لا تعاني نقصاً في الطعام. وعلى الرغم من ذلك، بات واضحاً في نهاية شهر يناير ضرورة توفير كميات كبيرة من الحبوب بغض النظر عن مصدرها. وأثناء ذلك أصبح ظهور نابولين نادراً، وكان يمضي جل وقته في بيت المزرعة الذي تقوم على حراسة أبوابه كلاب ضَّواري، وإذا خرج فإنه يخرج بمظهر احتفالي مهيب.. تحيط به ستة من كلاب الحراسة الخاصة تصدر زمجرة مخيفة كزمجرة الرعد كلما حاول أحد الاقتراب منه! وأصبح يتخلف عن اجتماعات أيام الأحد، واكتفى بإصدار الأوامر من خلال أحد الخنازير.. سكويلر عادة.
***في صباح أحد أيام الأحد أعلن سكويلر أنه ينبغي على الدجاج، الذي بدأ يضع البيض مرة أخرى، تسليم بيضها للإيفاء بتعهد أبرمه نابولين وتوسط فيه ويمبر لتوفير أربعمائة بيضة أسبوعياً. وسوف يستفاد من أسعار البيض لشراء ما يكفي من حبوب لإطعام حيوانات المزرعة حتى الصيف حين تتحسن أحوال الطقس. أطلق الدجاج إثر سماع هذه الأوامر صيحات رهيبة، فعلى الرغم من أنها أُنذرت سلفا أنه قد يُطلب منها تقديم هذه التضحية الضرورية، إلا أنها لم تصدق أنه سيأتي يوم ستطالب فيه بالتخلي عن حقها في التكاثر، فقد أنهت للتو إعداد الاعشاش استعداداً لوضع البيض ليفقس خلال فصل الربيع. وأعلن الدجاج عن سخطه ورفضه لهذا الإجراء وعدّه جريمة بحق بني جنسه. ولأول مرة، منذ طرد جونز، شهدت المزرعة تمرداً قادته ثلاث دجاجات سوداء، وأظهر الدجاج عزماً على إحباط خطة نابولين. عبر الدجاج عن رفضه لوضع البيض على عوارض عالية ليسقط منها على الأرض ويتهشم. ورد نابولين بحزم وقسوة على تمرد الدجاج، إذا أمر بقطع حصصها من الطعام وأعلن عقوبة الإعدام لمن يقدم ولو حبة شعير لها، وكلف الكلاب بمراقبة الحيوانات والتأكد من تنفيذ أوامره. تمرد الدجاج لم يدم طويلاً إذ فقد القدرة على الصمود؛ فاستسلم في اليوم الخامس وعاد إلى صناديق وضع البيض بعد أن دفن تسع دجاجات نفقت جوعاً أثناء الحصار، وبذلك وفرت المزرعة كمية البيض المتفق عليها في الوقت المناسب وأخذت شاحنة صاحب البقالة تصل إلى المزرعة بانتظام أسبوعياً لاستلام البيض ونقله إلى الخارج.
***انقطعت في هذه الفترة أخبار سنوبول ولم يعد يُذكر من أمره شيئاً سوى إشاعات تفيد باختفائه في إحدى المزرعتين المجاورتين: فوكسوود أو بينتشفيلد. وكانت علاقات نابولين مع جيرانه في هذه الفترة أفضل قليلا عما كانت عليه من قبل.. لاسيما أن ويمبر نصحه ببيع كومة من خشب الزان كانت مهملة في الساحة منذ عشر سنوات بعد أن نقل له رغبة الجارين في شرائها، إلا أن نابولين ظل مترددا بين الاثنين غير قادر على اتخاذ القرار المناسب. ثم أن الحيوانات لاحظت أنه كلما اقترب نابولين من الاتفاق مع فريدريك، تكثر الإشاعات عن وجود سنوبول في مزرعة فوكسوود بينما يصار إلى بث أقاويل عن اختفائه في مزرعة بينتشفيلد عندما يميل الاتفاق نحو بيلكينجتون.شهدت المزرعة، بحلول الربيع، بعض الحوادث المزعجة.. نسبت إلى سنوبول. فقد أشيع أنه أخذ يتردد على المزرعة ليلاً! مما أزعج الحيوانات كثيراً إلى حد أنها لم تستطع الخلود إلى مرابضها. كان الحديث يدور حول تسلل سنوبول كل ليلة وتحت جنح الظلام وارتكاب كثيرا من المفاسد! بعضهم اتهمه بسرق الذرة وإفساد جرار الحليب وكسر البيض، وقال آخرون إنه داس البذور وقضم لحاء أشجار الفواكه. وجرت العادة أنه كلما تضرر شيء أو تعطل توجه أصابع الاتهام إلى سنوبول: فإذا كُسر زجاج نافذة أو سُدَّ مجرى الصرف الصحي، فمن المؤكد أن أحدا سيدعي أن سنوبول جاء أثناء الليل وفعل ذلك، وعندما فُقِدَ مفتاح بيت المؤنة كانت الحيوانات كلها مقتنعة أن سنوبول هو الذي رمى المفتاح في البئر. ومما يثير الاستغراب أن تهمة لم ترفع عن سنوبول حتى بعد العثور على المفتاح المفقود تحت كيس الحبوب. كما ادعت الأبقار كافة أن سنوبول تسلل إلى مرابضها وحلبها أثناء نومها. قرر نابولين إجراء تحقيق شامل في أنشطة سنوبول وتولى بنفسه عملية البحث عن أدلة تؤكد التهم الموجهة للخنزير المطرود، فخرج من بيت المزرعة تحيط به كلابه لتفتيش المباني والحقول والمراعي، وتبعته بقية الحيوانات على مسافة مناسبة تليق بمكانة "القائد". كان يقف كل بضع خطوات.. يَشُمُّ الأرض بحثاً عن آثار أقدام سنوبول مدعيا أن بوسعه معرفة رائحته بحاسة الشم، فبحث عنها في أرجاء المزرعة كافة ولم يترك زاوية إلا ودس أنفه فيها: الحظيرة وزريبة الأبقار وقفص الدجاج ومزرعة الخضروات، وفي كل منها عثر على آثار أقدام سنوبول. كان يضع أنفه على الأرض ويزفر عدة مرات، ثم يرفع رأسه عاليا ويطلق صيحة مخيفة "سنوبول كان هنا.. نعم، فأنا أستطيع شم رائحته!" وما أن كان يذكر اسم سنوبول حتى تكشر الكلاب عن أنيابها الجانبية وتصدر عواءً ترتعد له الأوصال.تملك الرعب ذلك اليوم الحيوانات وكان خوفها شديداً، وبدا لها سنوبول كشبح لا يرى.. يحيط بها في الهواء ويتوعدها بالانتقام، وفي المساء استدعاها سكويلر للاجتماع وأخبرها، وقد طفح وجهه بخطورة الأمر، أنه يحمل لها أنباء خطيرة للغاية! وصرخ وهو ينط بعصبية من مكان الى آخر: ـ أيها الرفاق، لقد اكتشفنا أمرا في غاية الخطورة. لقد باع سنوبول نفسه لفريدريك صاحب مزرعة بينتشفيلد، الذي يعد العدة الآن لمهاجمتنا والاستيلاء على مزرعتنا.. يعاونه في ذلك الخائن سنوبول الذي سيكون دليله عندما يبدأ الهجوم. واستطرد:ـ كنا نظن أن وراء تمرد سنوبول الانتقام والطموح الشخصي في تولي زعامة الثورة. هذا ما كنا نظنه، ولكن الحقيقة خلاف ذلك يا رفاق!وبعد أن مرّ بنظره على الوجوه التي أمامه، تساءل:ـ هل تعلمون السبب الحقيقي؟ وبعد قليل:ـ كان سنوبول عميلاً لجونز منذ البداية! نعم كان عميله السري طوال الوقت؛ فقد أثبتت الوثائق التي كُشف النقاب عنها مؤخرا، والتي تركها خلفه، أمره وأكدت بما لا يدع مجالا للشك انه خان بني جنسه. وأضاف: ـ هذا أيها الرفاق يفسر كثيرا من الغموض الذي اكتنف سلوكه. أفلم نرَ بأعيننا كيف حاول، ولحسن الحظ لم يفلح، في مساعدة العدو على هزيمتنا وتحطيمنا في معركة حظيرة البقر؟!ذهلت الحيوانات كافة لهول ما سمعت، فقد تجاوز سنوبول بعمله الخبيث هذا كثيرا تحطيم طاحونة الهواء، وتطلب الأمر بضع دقائق قبل أن تستوعبه: أخذت تتذكر ـ أو بدا لها ذلك ـ شجاعة سنوبول وإقدامه في معركة حظيرة البقر، وكيف كان يثير حماسها ويستجمع قواها ويوجهها في المعركة، ولم تهمد عزيمته للحظة حتى عندما أصيب برصاص جونز في ظهره. صعب على الحيوانات، في البداية، تفسير الأمر، فكيف يقاتل إلى جانبها ويعرض حياته للخطر وهو عميل لجونز! وحتى بوكسر، وهو قلما يسأل، جلس بعد أن وضع حافريه الأماميات أسفل بطنه وأغمض عينيه ثم استجمع أفكاره، وقال: ـ لا أصدق ذلك، لقد قاتل سنوبول بشجاعة في معركة حظيرة البقر وشاهدته بنفسي.ثم تساءل بعد أن استجمع مزيدا من صور المعركة وما تلاها: ـ ألم نقلده وسام بطل الحيوان من الدرجة الأولى فور انتهاء المعركة؟!ـ لقد أخطأنا يا رفيق. واستدرك سكويلر:ـ لأننا نعلم الآن، حسب ما كشفت عنه الوثائق السرية التي عثرنا عليها، أنه حاول أن يقودنا إلى حتفنا.ورد بوكسر: ـ ولكنه كان مصاباً وقد شاهدناه يركض والدم ينزف من ظهره.فصاح سكويلر قائلا:ـ لم يكن ذلك سوى جزء من الخطة؛ فرصاصة جونز خدشت جسده ليس غير، وبوسعي تقديم البرهان على ذلك وبخط يده لو كنت تعرف القراءة. فقد كلف سنوبول بإثارة الرعب والفرار من أرض المعركة في اللحظة المناسبة بناء على إشارة من العدو، وكاد ينجح في مسعاه لولا يقظة وشجاعة قائدنا العظيم نابولين. وصرخ وقد زادت سرعة حركة ذيله:ـ ألا تتذكرون كيف ولى سنوبول الأدبار، وتبعته بعض الحيوانات، في اللحظة التي دخل فيها جونز ورجاله الميدان؟ ألا تذكرون كيف دخل الرفيق نابولين في مواجهة العدو حين دبّ الهلع في نفوس الحيوانات، وهو يصرخ "الموت للإنسانية" وغرز أسنانه في رجل جونز! لا بد أنكم تتذكرون ذلك يا رفاق؟ بعد أن أعاد لهم سكويلر مشاهد المعركة بالتفصيل بدا للحيوانات وكأن شيئاً مما قاله حدث بالفعل. فهي تتذكر أنها شاهدت سنوبول يهرب من أرض المعركة في اللحظة الحرجة. بوكسر وحده ظل مضطرباًَ ومشوش التفكير، وعبر عن ذلك قائلاً: ـ لا أعتقد أن سنوبول كان خائناً في البداية.. كان رفيقاً صادقاً في معركة الحظيرة على الرغم مما بدر منه بعد ذلك الحين. وقاطعه سكويلر بنبرة واثقة وبطيئة للغاية: ـ لقد أعلن قائدنا الرفيق نابولين إن سنوبول كان عميلاً لجونز منذ البداية حتى قبل التفكير في الثورة.ـ آه، الأمر مختلف إذن! فالصدق ما يقوله الرفيق نابولين، وقائدنا العظيم دائما على حق. وما كاد بوكسر ينهي حديثه، صرخ سكويلر وهو يثني عليه:ـ هذه هي الروح الحقيقية يا رفاق. وإن قال ذلك، الا أن الحيوانات لاحظت أنه رمق بوكسر بنظرة وقحة من عينيه البراقتين. وقبل أن يستدير للخروج أضاف: ـ إني أحذر الحيوانات كافة في هذه المزرعة بأن يأخذوا الحيطة والحذر لأننا نعتقد، ولأسباب وجيهة، أن بعض عملاء سنوبول السريين مندسون بيننا في هذه اللحظات!
***بعد أربعة أيام أمر نابولين الحيوانات بالتجمع في الساحة. وإذ أكتمل الحضور خرج عليهم من بيت المزرعة وعلى صدره وسامان جديدان ـ منح نابولين نفسه مؤخراً وسام بطل الحيوانات من الدرجة الأولى وبطل الحيوانات من الدرجة الثانية ـ ترافقه كلابه الضخمة التسعة وهي تصدر نباحا أثار القشعريرة في أوصال الحيوانات كافة؛ فجثمت مرتعدة في أمكانها.. وهي تعرف مقدماً أن أمراً جللاً وقع أو كاد!وقف نابولين مُتَجَهِّم الوجه يحصي رعيته، ثم أطلق صوتا حاداً اندفعت على إثره الكلاب إلى الأمام وأمسكت بأربعة خنازير من آذانها وجرتها، وهي تصرخ من الألم وترتعد من الخوف، إلى تحت أقدام نابولين. وأمام دهشت الجميع وذهولهم ألقت ثلاثة من الكلاب أجسادها على بوكسر الذي تلقف أحدها بحوافره الضخمة في الهواء وأطاحه أرضاً، فصرخ الكلب طالباً الرحمة وفر الآخران وذيل كل منهما بين فخذيه. وهو يهم بتحطيم الكلب، نظر بوكسر نحو نابولين، فتلقى منه أمراً حازماً بترك الكلب وشأنه.كانت الخنازير الأربعة التي جرتها الكلاب هي نفسها التي عبرت عن معارضتها لإلغاء اجتماعات يوم الأحد.. وقفت تنتظر وفرائصها ترتعد وعلت وجوهها ملامح الشعور بالذنب. واذ هدأت الجلبة، دعاها نابولين للاعتراف بجرم ما اقترفت. ومن دون انتظار طويل ، شرعت الخنازير المتهمة بالاعتراف: لقد اتصلت سرا بسنوبول منذ طرده وتعاونت معه على تحطيم الطاحونة واتفقت معه على تسليم مزرعة الحيوان لفريدريك. وأضافت إن سنوبول اعترف لها بأنه يعمل لصالح جونز طوال السنوات السابقة. وما أن اقتربت الخنازير الأربعة من إنهاء اعترافاتها حتى هجمت الكلاب عليها ومزقتها إرباً إرباً. وبصوت أجش سأل نابولين الحيوانات إذا كان لدى أحدها ما يود الاعتراف به.تقدمت الدجاجات الثلاث اللاتي قدن محاولة العصيان في قضية البيض إلى الأمام واعترفت أن سنوبول ظهر لها في المنام وحرضها على عصيان أوامر نابولين، وكان مصيرها الذبح أيضاً. ثم أقرت وَزَّة بإخفاء ست كيزان ذرة سرا في موسم حصاد العام الماضي وأكلتها خلال الليل. واعترفت شَاةٌ بقضاء حاجتها في بركة ماء الشرب بعد أن حرضها سنوبول على ذلك، واعترفت شاتان أخريان بقتل كبش من إتباع نابولين المخلصين. ونُفذ حكم الإعدام فيهن كلهن. وتوالت الاعترافات ومعها توالت الاعدامات؛ فذبح كل من ارتكب جرما أو أبدى اعتراضا على أوامر نابولين.. بغض النظر عن مستوى خطورتها أو ما سببته من ضرر للمزرعة والحيوانات. وتَكَدَّسَت الجثث تحت قدمي نابولين، وامتلأ الجو برائحة الدم في سابقة لم تشهد لها المزرعة مثيلاً منذ قيام الثورة وطرد جونز!
***وحالما انتهت المحاكمة، انسحب من تبقى من الحيوانات ماعدا الكلاب والخنازير.. كلها ترتجف وفي حالة يرثى لها. بدا الأمر رهيباً وصعب التفسير، فمنذ طرد جونز وحتى اليوم لم يقتل حيوان حيواناً آخر. وحين بلغت الحيوانات الربوة الصغيرة حيث تبنى الطاحونة التي اكتمل نصفها، جثمت معا متلاصقة بحثاً عن الدفء والأمان: كلوفر، وموريل، وبنجامين، والبقر، والخراف، وأسراب الإوز، والدجاج. بوكسر وحده ظل واقفاً يذرع المكان جيئة وذهاباً، ويحرك ذيله الطويل الأسود من جانب لآخر، ويصدر صهيلاً خافتاً.. شجيا.. تعبيراً عن حيرته، وبعد طول تفكير قال: ـ لا أستطيع يا أصدقائي فهم ما يجري. وهو يهز رأسه ويزفر بقوة:ـ لا أصدق أن مثل هذه الفظاعة يمكن أن تحدث في مزرعتنا؟! إنها بعض من عيوبنا لا شك.واستدرك:ـ لا أرى شيئا يُصلح من شأننا غير مزيد من العمل. نعم هذا هو الحل، ومنذ اليوم سأستيقظ مبكراً قبل ساعة كاملة. وغادر المكان متثاقلاً نحو المحجر حيث قام بجمع حملين من الحجارة وسحبهما إلى موقع الطاحونة قبل أن يأوي إلى مربضه.
***تطل الربوة حيث ذهبت الحيوانات على منطقة واسعة من الريف، ومنها كانت تستطيع رؤية أجزاء المزرعة: المرعى الطويل الممتد إلى الطريق العام، وحقل العشب، وبركة مياه الشرب، والحقول المروية حيث تنمو سنابل القمح الغضة كثة خضراء، وأسقف مباني المزرعة الحمراء التي يتصاعد منها الدخان، والعشب الذي يلمع كالذهب تحت أشعة شمس الربيع الدافئة. لم تبد المزرعة للحيوانات يوماً مكاناً مفضلاً للعيش مثلما بدت لها اليوم. وعندما نظرت كلوفر نحو سفوح التلال فاضت عيناها من الدمع. ولو أتيح لها التعبير عن مكنونات نفسها لقالت "هذا ليس هو الحلم الذي سعت الحيوانات إلى تحقيقه حين تعهدت قبل سنوات بالعمل على طرد البشر من المزرعة". ولم تكن مشاهد الرعب هذه وسفك الدماء آمالاً تطلعت إليها الحيوانات في تلك الليلة التي أشعل فيها العجوز ميجر جذوة الثورة، ولو كان في ذهنها صورة للمستقبل، فستكون لمجتمع حيوانات مستقل.. متحرر من الجوع والكرباج والسوط.. يتساوى فيه الجميع ويعمل أفراده كل بحسب طاقته: مجتمع يحمي فيه القوي الضعيف ويعطف فيه الكبير على الصغير. وبدلاً من ذلك بلغ الحال، ولأسباب تجهلها، درجة لا يستطيع أحد فيها التعبير عن رأيه، حيث تنتشر الكلاب المسعورة في كل مكان، ويرغم الحيوان على مشاهدة رفيقه الحيوان يمزق إرباً عقابا على جرائم توقع في النفس الذعر والاشمئزاز. بيد أن تفكيرها خلا من التمرد والعصيان، فهي تعلم أنها الآن مهما ساءت أحوالها، أفضل عما كانت عليه أيام جونز وأن ما جرى كان ضرورة لرد أية فرصة لعودة جنس البشر مرة ثانية. ومهما حدث ستضل مخلصة تعمل بجد وتنفذ الأوامر الصادرة لها من دون مناقشة، وتطيع القائد نابولين.وأخيراً، وبعد أن وجدت كلوفر في خلوتها الفكرية عوضاً عن الكلمات التي اختلجت في صدرها وعجزت عن نطقها، بدأت تغنى أنشودة "حيوانات إنجلترا" وتبعتها بقية الحيوانات وأعادتها ثلاث مرات بشكل بطئ يثير الحزن. وما كادت الحيوانات تكمل غناء الأنشودة للمرة الثالثة حتى أقبل عليها سكويلر برفقة كلبين وفي جعبته شأن هام. وثم أعلن أن الرفيق نابولين أصدر مرسوما يلغي أنشودة "حيوانات إنجلترا ". وأكد ذلك قائلا:ـ فمنذ الآن وصاعداً يمنع منعاً باتاً غناءها.فوجئت الحيوانات، وصاحت موريل: ـ لماذا؟ وأوضح سكويل بلهجة قاسية: ـ كانت "حيوانات إنجلترا" أغنية الثورة. أما وقد تحققت الثورة، وترسخ وجودها اليوم بإعدام الخونة وهزيمة الأعداء في الداخل والخارج، فليس ثمة حاجة لها. لقد كانت الأنشودة تعبيراً عن تطلعنا لإقامة مجتمع أفضل في المستقبل، وها نحن حققنا حلمنا وأقمنا ذلك المجتمع.
الفصل السابع
كان الشتاء قارصاً وقاسيا، وكان شديد الوطأة، فقد حملت العواصف معها بَرَداً فصقيعاً ثم ثلجاً، واستمر الطقس سيئاً حتى وقت متأخر من شهر فبراير. وعلى الرغم من ذلك واصلت الحيوانات بناء الطاحونة، ولم تدخر جهدا في سبيل انجاز ما نوت عليه.. وهي تعلم أنها أصبحت محط أنظار العالم الخارجي، وأن المزارعين الحاقدين سوف يرقصون فرحاً إن لم تُنجز الطاحونة في الوقت المحدد.وقد شكك جيران المزرعة في صحة اتهام سنوبول بهدم الطاحونة، وقالوا إنها تداعت بسبب ضعف جدرانها، لكن الحيوانات لم تعترف قط ببراءة سنوبول. ومع ذلك تقرر بناء الجدران بسمك ثلاثة أقدام بدلاً من قدم ونصف كما كان في المرة السابقة.. الأمر الذي ترتب عليه أعمالاً إضافية بسبب الحاجة لجمع كميات أكبر من الصخور. وتحملت الحيوانات وطأة العمل وشدته تحت ظروف طقس قارس، وفقدت الأمل الذي كان يمدها بالقوة، وكانت دائمة الشعور بالبرد والجوع. بوكسر وكلوفر هما الوحيدان اللذان لم يتسلل اليأس إلى قلبيهما. وعلى الرغم من أن نابولين واصل إلقاء خطبة الرائعة عن حب العمل وشرف الكد، إلا أن الحيوانات كانت تجد السُّلْوَانَ في قوة بوكسر وحكمته الخالدة "سأعمل بجهد أكبر"!
***في شهر يناير، تعرضت المزرعة لنقص حاد في المُؤْنَة، وخُفضت حصص الذرة بنسبة كبيرة، وأعلن عن زيادة حصة البطاطا تعويضاً عن ذلك النقص. ثم تبين أن معظم مخزون البطاطا أصابه الصقيع وأصبح فاسداً لا يصلح للأكل. وأمضت الحيوانات أياماً لا تأكل سوى العشب والبنجر، وبدت المزرعة وكأنها على وشك التعرض لمجاعة ستطال الجميع ولن ينجو أحد من الموت جوعا. كان من الأهمية بمكان إخفاء هذه الحقيقة عن العالم الخارجي.. ولاسيّما أن المزارعين أخذوا، بعد هدم الطاحونة، يروجون إشاعات وأكاذيب عن مزرعة الحيوان! فقد أشاعوا ثانية أن الحيوانات تعاني أمراضا فتاكة، وأنها في حالة قتال دائم بعد أن دفع الجوع بعضها إلى أكل لحم بعضها الآخر ووأد صغارها! كان نابولين يدرك جيدا التداعيات السلبية التي ستترتب على انتشار الخبر ومعرفة العالم الخارجي حقيقة الوضع المعيشي في المزرعة، فقرر الاستفادة من ويمبر لإشاعة انطباعات مغايرة تدحض إشاعات جيران المزرعة! كان اتصال الحيوانات بـ"ويمبر" خلال زياراته الأسبوعية حتى الآن معدوماً أو في أضيق الحدود. بيد أن الأمر استدعى هذه المرة التعامل معه على نحو مختلف بهدف نقل رسالة إلى الخارج تؤكد أن المزرعة ليست على وشك التعرض للمجاعة، وأن كل ما قيل وأشيع ليس سوى أكاذيب مغرضة. وقع الاختيار على عدد من الحيوانات.. اغلبها خراف. وأوعز لها نابليون بإبداء ملاحظات على مسمع بويمبر تفيد بزيادة حصص الطعام. وبالإضافة إلى ذلك أمر نابليون بملء صناديق المؤنة الفارغة تماماً بالتراب إلى حوافها ثم جرى تغطيتها بما تبقى من الحبوب والغِلاَل. وخلال زيارته الأسبوعية اصطحب نابولين ويمبر بذرائع مناسبة في جولة شملت مخزن المؤنة، وسَمَحَ له بإلقاء نظرة خاطفة على الصناديق؛ فوقع ويمبر فريسة الخداع وواصل نقل أخبار المزرعة إلى العالم الخارجي مؤكداً أن مزرعة الحيوان لا تعاني نقصاً في الطعام. وعلى الرغم من ذلك، بات واضحاً في نهاية شهر يناير ضرورة توفير كميات كبيرة من الحبوب بغض النظر عن مصدرها. وأثناء ذلك أصبح ظهور نابولين نادراً، وكان يمضي جل وقته في بيت المزرعة الذي تقوم على حراسة أبوابه كلاب ضَّواري، وإذا خرج فإنه يخرج بمظهر احتفالي مهيب.. تحيط به ستة من كلاب الحراسة الخاصة تصدر زمجرة مخيفة كزمجرة الرعد كلما حاول أحد الاقتراب منه! وأصبح يتخلف عن اجتماعات أيام الأحد، واكتفى بإصدار الأوامر من خلال أحد الخنازير.. سكويلر عادة.
***في صباح أحد أيام الأحد أعلن سكويلر أنه ينبغي على الدجاج، الذي بدأ يضع البيض مرة أخرى، تسليم بيضها للإيفاء بتعهد أبرمه نابولين وتوسط فيه ويمبر لتوفير أربعمائة بيضة أسبوعياً. وسوف يستفاد من أسعار البيض لشراء ما يكفي من حبوب لإطعام حيوانات المزرعة حتى الصيف حين تتحسن أحوال الطقس. أطلق الدجاج إثر سماع هذه الأوامر صيحات رهيبة، فعلى الرغم من أنها أُنذرت سلفا أنه قد يُطلب منها تقديم هذه التضحية الضرورية، إلا أنها لم تصدق أنه سيأتي يوم ستطالب فيه بالتخلي عن حقها في التكاثر، فقد أنهت للتو إعداد الاعشاش استعداداً لوضع البيض ليفقس خلال فصل الربيع. وأعلن الدجاج عن سخطه ورفضه لهذا الإجراء وعدّه جريمة بحق بني جنسه. ولأول مرة، منذ طرد جونز، شهدت المزرعة تمرداً قادته ثلاث دجاجات سوداء، وأظهر الدجاج عزماً على إحباط خطة نابولين. عبر الدجاج عن رفضه لوضع البيض على عوارض عالية ليسقط منها على الأرض ويتهشم. ورد نابولين بحزم وقسوة على تمرد الدجاج، إذا أمر بقطع حصصها من الطعام وأعلن عقوبة الإعدام لمن يقدم ولو حبة شعير لها، وكلف الكلاب بمراقبة الحيوانات والتأكد من تنفيذ أوامره. تمرد الدجاج لم يدم طويلاً إذ فقد القدرة على الصمود؛ فاستسلم في اليوم الخامس وعاد إلى صناديق وضع البيض بعد أن دفن تسع دجاجات نفقت جوعاً أثناء الحصار، وبذلك وفرت المزرعة كمية البيض المتفق عليها في الوقت المناسب وأخذت شاحنة صاحب البقالة تصل إلى المزرعة بانتظام أسبوعياً لاستلام البيض ونقله إلى الخارج.
***انقطعت في هذه الفترة أخبار سنوبول ولم يعد يُذكر من أمره شيئاً سوى إشاعات تفيد باختفائه في إحدى المزرعتين المجاورتين: فوكسوود أو بينتشفيلد. وكانت علاقات نابولين مع جيرانه في هذه الفترة أفضل قليلا عما كانت عليه من قبل.. لاسيما أن ويمبر نصحه ببيع كومة من خشب الزان كانت مهملة في الساحة منذ عشر سنوات بعد أن نقل له رغبة الجارين في شرائها، إلا أن نابولين ظل مترددا بين الاثنين غير قادر على اتخاذ القرار المناسب. ثم أن الحيوانات لاحظت أنه كلما اقترب نابولين من الاتفاق مع فريدريك، تكثر الإشاعات عن وجود سنوبول في مزرعة فوكسوود بينما يصار إلى بث أقاويل عن اختفائه في مزرعة بينتشفيلد عندما يميل الاتفاق نحو بيلكينجتون.شهدت المزرعة، بحلول الربيع، بعض الحوادث المزعجة.. نسبت إلى سنوبول. فقد أشيع أنه أخذ يتردد على المزرعة ليلاً! مما أزعج الحيوانات كثيراً إلى حد أنها لم تستطع الخلود إلى مرابضها. كان الحديث يدور حول تسلل سنوبول كل ليلة وتحت جنح الظلام وارتكاب كثيرا من المفاسد! بعضهم اتهمه بسرق الذرة وإفساد جرار الحليب وكسر البيض، وقال آخرون إنه داس البذور وقضم لحاء أشجار الفواكه. وجرت العادة أنه كلما تضرر شيء أو تعطل توجه أصابع الاتهام إلى سنوبول: فإذا كُسر زجاج نافذة أو سُدَّ مجرى الصرف الصحي، فمن المؤكد أن أحدا سيدعي أن سنوبول جاء أثناء الليل وفعل ذلك، وعندما فُقِدَ مفتاح بيت المؤنة كانت الحيوانات كلها مقتنعة أن سنوبول هو الذي رمى المفتاح في البئر. ومما يثير الاستغراب أن تهمة لم ترفع عن سنوبول حتى بعد العثور على المفتاح المفقود تحت كيس الحبوب. كما ادعت الأبقار كافة أن سنوبول تسلل إلى مرابضها وحلبها أثناء نومها. قرر نابولين إجراء تحقيق شامل في أنشطة سنوبول وتولى بنفسه عملية البحث عن أدلة تؤكد التهم الموجهة للخنزير المطرود، فخرج من بيت المزرعة تحيط به كلابه لتفتيش المباني والحقول والمراعي، وتبعته بقية الحيوانات على مسافة مناسبة تليق بمكانة "القائد". كان يقف كل بضع خطوات.. يَشُمُّ الأرض بحثاً عن آثار أقدام سنوبول مدعيا أن بوسعه معرفة رائحته بحاسة الشم، فبحث عنها في أرجاء المزرعة كافة ولم يترك زاوية إلا ودس أنفه فيها: الحظيرة وزريبة الأبقار وقفص الدجاج ومزرعة الخضروات، وفي كل منها عثر على آثار أقدام سنوبول. كان يضع أنفه على الأرض ويزفر عدة مرات، ثم يرفع رأسه عاليا ويطلق صيحة مخيفة "سنوبول كان هنا.. نعم، فأنا أستطيع شم رائحته!" وما أن كان يذكر اسم سنوبول حتى تكشر الكلاب عن أنيابها الجانبية وتصدر عواءً ترتعد له الأوصال.تملك الرعب ذلك اليوم الحيوانات وكان خوفها شديداً، وبدا لها سنوبول كشبح لا يرى.. يحيط بها في الهواء ويتوعدها بالانتقام، وفي المساء استدعاها سكويلر للاجتماع وأخبرها، وقد طفح وجهه بخطورة الأمر، أنه يحمل لها أنباء خطيرة للغاية! وصرخ وهو ينط بعصبية من مكان الى آخر: ـ أيها الرفاق، لقد اكتشفنا أمرا في غاية الخطورة. لقد باع سنوبول نفسه لفريدريك صاحب مزرعة بينتشفيلد، الذي يعد العدة الآن لمهاجمتنا والاستيلاء على مزرعتنا.. يعاونه في ذلك الخائن سنوبول الذي سيكون دليله عندما يبدأ الهجوم. واستطرد:ـ كنا نظن أن وراء تمرد سنوبول الانتقام والطموح الشخصي في تولي زعامة الثورة. هذا ما كنا نظنه، ولكن الحقيقة خلاف ذلك يا رفاق!وبعد أن مرّ بنظره على الوجوه التي أمامه، تساءل:ـ هل تعلمون السبب الحقيقي؟ وبعد قليل:ـ كان سنوبول عميلاً لجونز منذ البداية! نعم كان عميله السري طوال الوقت؛ فقد أثبتت الوثائق التي كُشف النقاب عنها مؤخرا، والتي تركها خلفه، أمره وأكدت بما لا يدع مجالا للشك انه خان بني جنسه. وأضاف: ـ هذا أيها الرفاق يفسر كثيرا من الغموض الذي اكتنف سلوكه. أفلم نرَ بأعيننا كيف حاول، ولحسن الحظ لم يفلح، في مساعدة العدو على هزيمتنا وتحطيمنا في معركة حظيرة البقر؟!ذهلت الحيوانات كافة لهول ما سمعت، فقد تجاوز سنوبول بعمله الخبيث هذا كثيرا تحطيم طاحونة الهواء، وتطلب الأمر بضع دقائق قبل أن تستوعبه: أخذت تتذكر ـ أو بدا لها ذلك ـ شجاعة سنوبول وإقدامه في معركة حظيرة البقر، وكيف كان يثير حماسها ويستجمع قواها ويوجهها في المعركة، ولم تهمد عزيمته للحظة حتى عندما أصيب برصاص جونز في ظهره. صعب على الحيوانات، في البداية، تفسير الأمر، فكيف يقاتل إلى جانبها ويعرض حياته للخطر وهو عميل لجونز! وحتى بوكسر، وهو قلما يسأل، جلس بعد أن وضع حافريه الأماميات أسفل بطنه وأغمض عينيه ثم استجمع أفكاره، وقال: ـ لا أصدق ذلك، لقد قاتل سنوبول بشجاعة في معركة حظيرة البقر وشاهدته بنفسي.ثم تساءل بعد أن استجمع مزيدا من صور المعركة وما تلاها: ـ ألم نقلده وسام بطل الحيوان من الدرجة الأولى فور انتهاء المعركة؟!ـ لقد أخطأنا يا رفيق. واستدرك سكويلر:ـ لأننا نعلم الآن، حسب ما كشفت عنه الوثائق السرية التي عثرنا عليها، أنه حاول أن يقودنا إلى حتفنا.ورد بوكسر: ـ ولكنه كان مصاباً وقد شاهدناه يركض والدم ينزف من ظهره.فصاح سكويلر قائلا:ـ لم يكن ذلك سوى جزء من الخطة؛ فرصاصة جونز خدشت جسده ليس غير، وبوسعي تقديم البرهان على ذلك وبخط يده لو كنت تعرف القراءة. فقد كلف سنوبول بإثارة الرعب والفرار من أرض المعركة في اللحظة المناسبة بناء على إشارة من العدو، وكاد ينجح في مسعاه لولا يقظة وشجاعة قائدنا العظيم نابولين. وصرخ وقد زادت سرعة حركة ذيله:ـ ألا تتذكرون كيف ولى سنوبول الأدبار، وتبعته بعض الحيوانات، في اللحظة التي دخل فيها جونز ورجاله الميدان؟ ألا تذكرون كيف دخل الرفيق نابولين في مواجهة العدو حين دبّ الهلع في نفوس الحيوانات، وهو يصرخ "الموت للإنسانية" وغرز أسنانه في رجل جونز! لا بد أنكم تتذكرون ذلك يا رفاق؟ بعد أن أعاد لهم سكويلر مشاهد المعركة بالتفصيل بدا للحيوانات وكأن شيئاً مما قاله حدث بالفعل. فهي تتذكر أنها شاهدت سنوبول يهرب من أرض المعركة في اللحظة الحرجة. بوكسر وحده ظل مضطرباًَ ومشوش التفكير، وعبر عن ذلك قائلاً: ـ لا أعتقد أن سنوبول كان خائناً في البداية.. كان رفيقاً صادقاً في معركة الحظيرة على الرغم مما بدر منه بعد ذلك الحين. وقاطعه سكويلر بنبرة واثقة وبطيئة للغاية: ـ لقد أعلن قائدنا الرفيق نابولين إن سنوبول كان عميلاً لجونز منذ البداية حتى قبل التفكير في الثورة.ـ آه، الأمر مختلف إذن! فالصدق ما يقوله الرفيق نابولين، وقائدنا العظيم دائما على حق. وما كاد بوكسر ينهي حديثه، صرخ سكويلر وهو يثني عليه:ـ هذه هي الروح الحقيقية يا رفاق. وإن قال ذلك، الا أن الحيوانات لاحظت أنه رمق بوكسر بنظرة وقحة من عينيه البراقتين. وقبل أن يستدير للخروج أضاف: ـ إني أحذر الحيوانات كافة في هذه المزرعة بأن يأخذوا الحيطة والحذر لأننا نعتقد، ولأسباب وجيهة، أن بعض عملاء سنوبول السريين مندسون بيننا في هذه اللحظات!
***بعد أربعة أيام أمر نابولين الحيوانات بالتجمع في الساحة. وإذ أكتمل الحضور خرج عليهم من بيت المزرعة وعلى صدره وسامان جديدان ـ منح نابولين نفسه مؤخراً وسام بطل الحيوانات من الدرجة الأولى وبطل الحيوانات من الدرجة الثانية ـ ترافقه كلابه الضخمة التسعة وهي تصدر نباحا أثار القشعريرة في أوصال الحيوانات كافة؛ فجثمت مرتعدة في أمكانها.. وهي تعرف مقدماً أن أمراً جللاً وقع أو كاد!وقف نابولين مُتَجَهِّم الوجه يحصي رعيته، ثم أطلق صوتا حاداً اندفعت على إثره الكلاب إلى الأمام وأمسكت بأربعة خنازير من آذانها وجرتها، وهي تصرخ من الألم وترتعد من الخوف، إلى تحت أقدام نابولين. وأمام دهشت الجميع وذهولهم ألقت ثلاثة من الكلاب أجسادها على بوكسر الذي تلقف أحدها بحوافره الضخمة في الهواء وأطاحه أرضاً، فصرخ الكلب طالباً الرحمة وفر الآخران وذيل كل منهما بين فخذيه. وهو يهم بتحطيم الكلب، نظر بوكسر نحو نابولين، فتلقى منه أمراً حازماً بترك الكلب وشأنه.كانت الخنازير الأربعة التي جرتها الكلاب هي نفسها التي عبرت عن معارضتها لإلغاء اجتماعات يوم الأحد.. وقفت تنتظر وفرائصها ترتعد وعلت وجوهها ملامح الشعور بالذنب. واذ هدأت الجلبة، دعاها نابولين للاعتراف بجرم ما اقترفت. ومن دون انتظار طويل ، شرعت الخنازير المتهمة بالاعتراف: لقد اتصلت سرا بسنوبول منذ طرده وتعاونت معه على تحطيم الطاحونة واتفقت معه على تسليم مزرعة الحيوان لفريدريك. وأضافت إن سنوبول اعترف لها بأنه يعمل لصالح جونز طوال السنوات السابقة. وما أن اقتربت الخنازير الأربعة من إنهاء اعترافاتها حتى هجمت الكلاب عليها ومزقتها إرباً إرباً. وبصوت أجش سأل نابولين الحيوانات إذا كان لدى أحدها ما يود الاعتراف به.تقدمت الدجاجات الثلاث اللاتي قدن محاولة العصيان في قضية البيض إلى الأمام واعترفت أن سنوبول ظهر لها في المنام وحرضها على عصيان أوامر نابولين، وكان مصيرها الذبح أيضاً. ثم أقرت وَزَّة بإخفاء ست كيزان ذرة سرا في موسم حصاد العام الماضي وأكلتها خلال الليل. واعترفت شَاةٌ بقضاء حاجتها في بركة ماء الشرب بعد أن حرضها سنوبول على ذلك، واعترفت شاتان أخريان بقتل كبش من إتباع نابولين المخلصين. ونُفذ حكم الإعدام فيهن كلهن. وتوالت الاعترافات ومعها توالت الاعدامات؛ فذبح كل من ارتكب جرما أو أبدى اعتراضا على أوامر نابولين.. بغض النظر عن مستوى خطورتها أو ما سببته من ضرر للمزرعة والحيوانات. وتَكَدَّسَت الجثث تحت قدمي نابولين، وامتلأ الجو برائحة الدم في سابقة لم تشهد لها المزرعة مثيلاً منذ قيام الثورة وطرد جونز!
***وحالما انتهت المحاكمة، انسحب من تبقى من الحيوانات ماعدا الكلاب والخنازير.. كلها ترتجف وفي حالة يرثى لها. بدا الأمر رهيباً وصعب التفسير، فمنذ طرد جونز وحتى اليوم لم يقتل حيوان حيواناً آخر. وحين بلغت الحيوانات الربوة الصغيرة حيث تبنى الطاحونة التي اكتمل نصفها، جثمت معا متلاصقة بحثاً عن الدفء والأمان: كلوفر، وموريل، وبنجامين، والبقر، والخراف، وأسراب الإوز، والدجاج. بوكسر وحده ظل واقفاً يذرع المكان جيئة وذهاباً، ويحرك ذيله الطويل الأسود من جانب لآخر، ويصدر صهيلاً خافتاً.. شجيا.. تعبيراً عن حيرته، وبعد طول تفكير قال: ـ لا أستطيع يا أصدقائي فهم ما يجري. وهو يهز رأسه ويزفر بقوة:ـ لا أصدق أن مثل هذه الفظاعة يمكن أن تحدث في مزرعتنا؟! إنها بعض من عيوبنا لا شك.واستدرك:ـ لا أرى شيئا يُصلح من شأننا غير مزيد من العمل. نعم هذا هو الحل، ومنذ اليوم سأستيقظ مبكراً قبل ساعة كاملة. وغادر المكان متثاقلاً نحو المحجر حيث قام بجمع حملين من الحجارة وسحبهما إلى موقع الطاحونة قبل أن يأوي إلى مربضه.
***تطل الربوة حيث ذهبت الحيوانات على منطقة واسعة من الريف، ومنها كانت تستطيع رؤية أجزاء المزرعة: المرعى الطويل الممتد إلى الطريق العام، وحقل العشب، وبركة مياه الشرب، والحقول المروية حيث تنمو سنابل القمح الغضة كثة خضراء، وأسقف مباني المزرعة الحمراء التي يتصاعد منها الدخان، والعشب الذي يلمع كالذهب تحت أشعة شمس الربيع الدافئة. لم تبد المزرعة للحيوانات يوماً مكاناً مفضلاً للعيش مثلما بدت لها اليوم. وعندما نظرت كلوفر نحو سفوح التلال فاضت عيناها من الدمع. ولو أتيح لها التعبير عن مكنونات نفسها لقالت "هذا ليس هو الحلم الذي سعت الحيوانات إلى تحقيقه حين تعهدت قبل سنوات بالعمل على طرد البشر من المزرعة". ولم تكن مشاهد الرعب هذه وسفك الدماء آمالاً تطلعت إليها الحيوانات في تلك الليلة التي أشعل فيها العجوز ميجر جذوة الثورة، ولو كان في ذهنها صورة للمستقبل، فستكون لمجتمع حيوانات مستقل.. متحرر من الجوع والكرباج والسوط.. يتساوى فيه الجميع ويعمل أفراده كل بحسب طاقته: مجتمع يحمي فيه القوي الضعيف ويعطف فيه الكبير على الصغير. وبدلاً من ذلك بلغ الحال، ولأسباب تجهلها، درجة لا يستطيع أحد فيها التعبير عن رأيه، حيث تنتشر الكلاب المسعورة في كل مكان، ويرغم الحيوان على مشاهدة رفيقه الحيوان يمزق إرباً عقابا على جرائم توقع في النفس الذعر والاشمئزاز. بيد أن تفكيرها خلا من التمرد والعصيان، فهي تعلم أنها الآن مهما ساءت أحوالها، أفضل عما كانت عليه أيام جونز وأن ما جرى كان ضرورة لرد أية فرصة لعودة جنس البشر مرة ثانية. ومهما حدث ستضل مخلصة تعمل بجد وتنفذ الأوامر الصادرة لها من دون مناقشة، وتطيع القائد نابولين.وأخيراً، وبعد أن وجدت كلوفر في خلوتها الفكرية عوضاً عن الكلمات التي اختلجت في صدرها وعجزت عن نطقها، بدأت تغنى أنشودة "حيوانات إنجلترا" وتبعتها بقية الحيوانات وأعادتها ثلاث مرات بشكل بطئ يثير الحزن. وما كادت الحيوانات تكمل غناء الأنشودة للمرة الثالثة حتى أقبل عليها سكويلر برفقة كلبين وفي جعبته شأن هام. وثم أعلن أن الرفيق نابولين أصدر مرسوما يلغي أنشودة "حيوانات إنجلترا ". وأكد ذلك قائلا:ـ فمنذ الآن وصاعداً يمنع منعاً باتاً غناءها.فوجئت الحيوانات، وصاحت موريل: ـ لماذا؟ وأوضح سكويل بلهجة قاسية: ـ كانت "حيوانات إنجلترا" أغنية الثورة. أما وقد تحققت الثورة، وترسخ وجودها اليوم بإعدام الخونة وهزيمة الأعداء في الداخل والخارج، فليس ثمة حاجة لها. لقد كانت الأنشودة تعبيراً عن تطلعنا لإقامة مجتمع أفضل في المستقبل، وها نحن حققنا حلمنا وأقمنا ذلك المجتمع.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق