الأحد، 27 مارس 2011

مزرعة الحيوانات لجورج اورويل ترجمة محمد العريمي الجزء العاشر والاخير

مزرعة الحيوانات لجورج اورويل ترجمة محمد العريمي


الفصل العاشر
سنين مضت وتعاقبت الفصول، ومضت معها حياة الحيوانات، وجاء وقت لم يعد في المزرعة من يتذكر أيام ما قبل الثورة سوى كلوفر وبنجامين وموسيس الغراب وعدد من الخنازير. موريل فارقت الحياة، وتوفى بلوبيل وجيسي وبنتشر أيضاً، ومات جونز وحيداً في مصحة لمعالجة مدمني الخمور في ناحية بعيدة من البلاد. وبات سنوبول في طي النسيان ولم يعد أحد يذكره أو يتذكره، وظل بوكسر في ذاكرة أصدقائه المخلصين فقط ممن بقوا على قيد الحياة، وأصبحت كلوفر عجوزا بدينة.. تصلبت مفاصلها وزاد رشح عينيها. وعلى الرغم من أنها تجاوزت سن التقاعد بعامين، إلا أنه لا هي ولا غيرها أحيل على المعاش. أما فكرة تخصيص جانب من المزرعة للحيوانات المتقاعدة فلم يعد أحد يأتي على ذكرها منذ فترة طويلة. نابولين صار الآن خنزيراً ناضجاً ومكتمل المدارك يزن حوالي 335 رطلاً، واكتنز سكويلر شحما ولحما وغاصت عيناه في وجهه المنتفخ ولم يعد يستطيع الرؤية بهما إلا بصعوبة! وحده بنجامين الحمار لم يتغير كثيراً غير أن الشيبُ لَوَّح شعر منخاريه، وأصبح أكثر ميلا إلى الصمت منذ أن توفى صديقه بوكسر.
* * *
ازدهرت المزرعة وأصبحت أفضل تنظيما، وتوسعت بإضافة حقلين اشتراهما نابولين من بيلكينجتون، وأكتمل بناء الطاحونة في نهاية المطاف، لكنها لم تسخر لتوليد الكهرباء وإنما استخدمت لطحن القمح وأصبحت تحقق دخلاً مجزيا. وأصبح بحوزة الحيوانات آلة درّاسة ومرفاع علف علاوة على بناء مباني جديدة متعددة. وعلى الرغم من الازدهار الذي شهدته المزرعة إلا أن الحيوانات ظلت تكدح كشأنها دائماً لبناء طاحونة هواء أخرى قيل، وللمرة الثانية، أنها ستزود بمولد كهرباء بعد اكتمالها. ولم يعد أحد يتطرق للرفاهية التي طالما تحدث عنها سنوبول: الحظائر المضاءة بالكهرباء والمزودة بالمياه الساخنة والباردة، وثلاثة أيام عمل في الأسبوع.. زد على ذلك أن نابولين شجب تلك الأفكار وعدّها مناقضة لمبادئ الحيوانية. فالسعادة الحقيقية، بحسب قوله، تكمن في جهد العمل وشظِف العيش.وقد بدت المزرعة أكثر غِنَى غير أن الرخاء وترف العيش لم يصب حياة الحيوانات باستثناء الخنازير والكلاب. ولعل ذلك يعود جزئياً إلى كثرة عددها وليس لأن هذه المخلوقات لا تعمل على غرار غيرها من الحيوانات. فهناك من أعمال إدارة المزرعة والإشراف عليها وتنظيمها ما لا نهاية له، حسب توضيحات سكويلر المتكررة، وأكثرها ذات طبيعة يتعذر على الحيوانات فهمها.وبالنسبة للحيوانات الأخرى، لم يطرأ على حياتها تتغير، حسب علمها، عما كانت عليه دائماً. ثم أنها ما تزال تعاني الجوع وتنام على القش وتشرب من البركة وتقاسي البرد شتاءا وأذى الذباب صيفاً. أما من تبقى على قيد الحياة من الحيوانات، التي شاركت في الثورة، فكانت حاجتها لاستعادة صور الأيام الأولى للثورة َتَشحَذُ ذاكرتها الضعيفة، وكانت تحاول قدر ما تتيح لها قدرتها الذهنية معرفة ما إذا كانت حياتها السابقة أفضل أو أسْوَأ عما هي عليه الآن. لكنها لا تستطيع تذكر شيء، فليس لديها ما تقارن به مستوى معيشتها الحالية سوى قائمة أرقام سكويلر التي تؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن حياتها تتحسن شيئا فشيئا على الصُعُد كافة، وهي الآن أفضل كثيرا عنما كانت عليه!وحده بنجامين العجوز يدعي أنه يتذكر كل صغيرة وكبيرة في حياته الطويلة، وهو لا سواه يعلم أن الحياة لم تكن قط ولن تغدو أبدا أفضل أو أسوأ: إنها سلسلة من الجوع والقسوة وخيبات الأمل، بحسب قوله: إنه قانون الحياة السرمـدي.ومع ذلك فإن الحيوانات، سواء كبيرة السن.. تلك التي شاركت في الثورة أم صغارها أو تلك التي قدمت من مزارع تبعد عشرة أو عشرين ميلا، لم تفقد الأمل الذي طالما حلمت به. والمهم أنها لم تتخلْ قط، ولو للحظة، عن إحساسها بالفخر لانتسابها لمزرعة الحيوان: المزرعة الوحيدة في البلاد كلها.. في كامل تراب إنجلترا التي تملكها الحيوانات وتدير شؤونها. وكانت قلوبها تزهو فخراً كلما سمعت دوي الرصاص وشاهدت الراية الخضراء ترفرف عالياً فوق السارية. وكان حديث كبار السن عن الثورة والبطولات الأولى لا ينقطع: طَرْد جونز وكتابة الوصايا السبع والمعارك الكبيرة التي انتهت بهزيمة البشر الغزاة. ولعل حياة الحيوانات الآن شاقة وآمالها لم تحقق كلها، لكنها تدرك أنها ليست كسائر الحيوانات، فهي إن جاعت فليس لإطعام الإنسان المستبد، وإن عملت كثيراً فلنفسها. ولا أحد من المخلوقات بينها يمشي على قدمين، ولا أحد يدعو الآخر "سيدي" فكل الحيوانات سواسية.

* * *
في أحد أيام بداية الصيف، قاد سكويلر قطيع من الخِراف إلى جزء قفَر في الطرف البعيد من المزرعة حيث أمضت اليوم كله هناك ترعى تحت إشرافه. وفي المساء عاد سكويلر بمفرده إلى بيت المزرعة. ولأن الطقس كان دافئا، فقد طَلبَ من الخراف البقاء في نفس المكان حيث أمضت أسبوعاً كاملاً ولم تشاهد طواله. وظل سكويلر يتردد عليها معظم الوقت، وقيل أنه كان يعلمها أغنية جديدة تتطلب العزلة والسرية.وفي أمسية بهية من أمسيات الريف الانجليزي، وفي أعقاب عودة الحيوانات من العمل إلى مباني المزرعة، سمعت الحيوانات صهيل فرس خائفة؛ فتوقفت عن المسير، والتفت تبحث عن مصدر الصوت الذي ازدادت حدته، فانطلقت عائدة إلى الساحة حيث كانت تقف كلوفر وقد أخذها الذهول وتملكها رعب شديد، وشاهدت الحيوانات ما أثار الهلع في نفس كلوفر: خنزيراً يمشي على قائمتيه الخلفيتين. أجل: إنه سكويلر.. كان يمشي على نحو أخرق، ولكن بتوازن تام على الرغم من أنه لم يعتد الوقوف بجسده الضخم على ذلك الوضع. وبعد ذلك بقليل خرج من بيت المزرعة رتل طويل من الخنازير تمشي جميعا على أرجلها الخلفية.. بعضها أتقن المشي أفضل من بعضها الآخر، واستطاعت كلها أن تكمل دورة واحدة حول الساحة بنجاح. وعلى نباح الكلاب الهادر وصوت الديك المطري الحاد، ظهر نابولين بنفسه: منتصب القامة.. وقد رفع فنطيسه عاليا.. يمشي الهوينى بِتُؤَدة ورفق ويمسك سوطاً بين أصابع حافريه الأمامية، ويرمي الحيوانات المحتارة بنظرات متعجرفة، وكلابه تسير من حوله. خيم صمت مميت على المكان، وتدافعت الحيوانات بعضها الى جنب البعض الآخر خوفا ودهشة، وأخذت تراقب رتل الخنازير الطويل يسير سيرا بطيئا حول الساحة، وقد بدا لها وكأن العالم برمته انقلب رأسا على عقب! وحين خفت الدهشة، وتلاشى وقع ما رأته، وحانت اللحظة التي آن للحيوانات أن تبدي فيها بعض عبارات الرفض والاعتراض، على الرغم من الفزع الذي كانت تثيره زمجرة الكلاب المحيطة بنابولين، والاستكانة التي تأصلت في نفوسها طوال السنوات: فلا تذمر ولا انتقاد مهما حدث، في تلك اللحظة تماماً، ارتفع ثُغَاءُ الخراف مدويا في سماء المزرعة: "أربع أقدام جيدة، قدمان أفضل!". استمرت الخراف تغثوا خمس دقائق بلا توقف، وعندما هدأت، كانت فرصة التعبير عن الرفض قد فاتت، بعد أن غدت الخنازير داخل بيت المزرعة. شعر بنجامين بحكة في كتفه، فحكها بأنفه، ثم أنه التفت حوله وشاهد كلوفر وعيناها مظلمتان أكثر من أي وقت مضى. ومن دون أن تتفوه بكلمة جرته بلطف من عرفه وقادته إلى جدار حظيرة البقر حيث كتبت الوصايا السبع. وظلا واقفين لدقيقة أو دقيقتين يحدقان في الجدار الملوث بالحبر والحروف البيضاء المكتوبة عليه. وأخيراً قالت كلوفر: ـ بصري خذلني، وحتى وأنا شابة لم أكن أستطع قراءة ما كتب على الجدار، لكن يبدو لي أنه مختلف، فهل الوصايا السبع ما تزال كما كانت من قبل يا بنجامين؟". وللمرة الأولى يتخلى بنجامين عن تحفظه ويقرأ ما كتب على الجدار. ولم يكن ثمة شيء الآن سوى وصية واحدة وكانت تقرأ على النحو التالي:
"
كل الحيوانات سواسية،
لكن بعض الحيوانات أكثر سواسية من غيرها".ولم يكن غريباً ولا مفاجئا في أعقاب التحول الرهيب في سلوك الخنازير خروجها في اليوم التالي للإشراف على عمل المزرعة وفي يد كل واحد منها سوطا. ولم يعد من المستهجن مشاهدة نابولين في حديقة البيت وفي فمه غليون أو رؤية الخنازير وهي ترتدي ملابس جونز. نابولين نفسه ظهر بمعطف أسود وبنطلون قصير وحذاء جلد، في حين لبست أنثاه المفضلة فستان حرير أبيض كانت السيدة جونز ترتديه أيام الأحد.
* * *
بعد أسبوع، دخلت المزرعة ظهراً بضع عربات تحمل وفداً من أصحاب المزارع المجاورة وجهت لهم دعوة لزيارة المزرعة وتفقدها. رافقت الخنازير ضيوفها المزارعين في جولة تفقدية لمشاهدة المزرعة. وأعرب الزائرون عن إعجابهم العظيم بكل ما شاهدوه خاصة طاحونة الهواء. وفي هذا الأثناء كلفت الحيوانات بإزالة الأعشاب الضارة وطلب منها الانهماك في العمل اثناء جولة الضيوف، إلا أنها كانت ترفع وجوهها عن الأرض كلما لاح لها طيف يتحرك على قوائمه الخلفية؛ فلم تعد تدري من يخيفها أكثر: الخنازير أم ضيوفهم البشر.وفي المساء ارتفعت أصوات الضحك والغناء من بيت المزرعة، فضغطت خصلت الفضول وحب الاستطلاع على الحيوانات وهي تسمع الأصوات المختلطة: ما الذي يجري هناك وقد اجتمعت الحيوانات لأول مرة مع البشر على أساس الند للند؟ زحفت الحيوانات مجتمعة بهدوء إلى حديقة بيت المزرعة. واقتربت من المنزل وهي تمشي على رؤوس حوافرها، وأطلت طويلة القامة منها من خلف زجاج النوافذ تحدق فيما كان يجري في غرفة الطعام. وهناك حول طاولة طويلة جلس ستة مزارعين ومثل عددهم من الخنازير، واحتل نابولين كرسي الشرف في صدر الطاولة. بدت الخنازير مسترخية تماما في مقاعدها الوثيرة.. مستمتعة بتجاذب أطراف الحديث ولعب الورق مع ضيوفها من بني البشر، ثم توقفت برهة لشرب الأنخاب: تَدَاوَلَتْ الأَيدي إبريقا ضخماً لملء الأقداح بالبيرة. وفي غمرة شرب الأنخاب لم يلاحظ من في الداخل الوجوه التي اعتراها الذهول خلف زجاج النوافذ! وقف بيلكينجتون، صاحب مزرعة فوكسوود، وبيده كأسه، وأبدى رغبته في قول بضعة كلمات قبل أن يطلب من الحضور شرب الأنخاب. قال إنه من دواعي سروره وغبطته.. يشاركه هذا الشعور من حضر معه من بني جنسه، أن عصرا من الشكوك وسوء الفهم قد مضى.. عصر من الحوادث المؤسفة والأفكار الخاطئة التي كانت تَرى في وجود مزرعة تديرها الخنازير أمراَ غير طبيعي ومثيراً للقلاقل.. من شأنه أن زعزعة أوضاع المزارع المجاورة. وقال لقد افترض مزارعون كثر، ومن دون إمعان النظر في الموضع، أن روحا من الفوضى والتمرد سوف تسود هذه المزرعة وستنتشر عدواها إلى حيواناتهم وبين عمالهم من البشر، بيد أن مخاوفهم كلها تبددت الآن بعد أن شاهد هو ومن جاء معه المزرعة وفحصوا كل شبر فيها، ووجدوا أنها لا تطبق أحدث وسائل الفلاحة فحسب، بل أنها ينبغي أن تكون مثالا للنظام والانضباط يقتدي به المزارعون كافة. وقال إن فئة الحيوانات الأدنى في مزرعة الحيوان تعمل أكثر وتأكل أقل من كل الحيوانات في البلاد!وأكد في نهاية حديثه على أهمية إقامة علاقات ودية بين مزرعة الحيوان وجيرانها ـ بين الخنازير والبشر. فلا مجال بعد اليوم لتضارب المصالح وتضاد الغايات، فالأهداف غدت مشتركة، والمصاعب صارت واحدة. ثم أنه هنأ الخنازير مرة ثانية على نظام الحصص المنخفضة وساعات العمل الطويلة والمعاملة الصارمة التي تتبناها في إدارة شؤون مزرعة الحيوان. ودعا، في ختام كلمته، المجتمعين إلى الوقوف والتَـأَكُّد من أن كؤوسهم مليئة، وقال: أيها السادة اشربوا معي نخب ازدهار ونجاح مزرعة الحيوان. ساد شعور بالبهجة بين الحاضرين، وضربت الأقدام الأرض تعبيرا عن السعادة، وبلغت النشوة بنابولين أشدها فدار بنفسه حول الطاولة إلى حيث وقف بيلكينجتون ليصلصل كأسه بكأس ضيفه قبل أن يفرغه في جوفه. وحين هدأ صليل الكؤوس، أبدا نابولين، الذي ظل واقفا أثناء حديث ضيفه، رغبته بقول بضع كلمات أيضا. وكعادة خُطََََبِ نابولين، كان حديثه قصيرا وكان مباشرا. قال إنه أيضا يشعر بالغبطة لأن عصراً من سوء الفهم أوشك على الانتهاء أو يكاد. فمنذ فترة طويلة وهم يسمعون شائعات يروج لها ـ حسب ظنه ـ أعداء حاقدون تتهمه وزملاءه الخنازير بأفكار هدامة وربما ثورية، كما اتهموا بمحاولة إشعال فتيل التمرد بين الحيوانات في المزارع المجاورة. واستطرد قائلا: ـ هذه اتهامات باطلة ولا أساس لها من الصحة. فلم يكن هدفنا لا الآن ولا في الماضي سوى العيش بسلام وإقامة صلات تجارية طبيعية مع جيراننا. ومضى يقول: ـ إن المزرعة التي أتشرف بإدارتها مشروع مشترك تملكه الخنازير بموجب سند ملكية شرعي احتفظ به شخصيا.وقال إنه لا يعتقد أن الشكوك القديمة ما زالت تخالج الصدور؛ فالمزرعة تشهد حاليا تحولاً جذرياً سيعزز الشعور بالثقة مع جيرانها. فلعل ضيوفه لاحظوا أن العلم المرفوع على السارية لم يعد يحمل شعار "قرن وحافر"، بعد أن أزيل منه ذلك الشعار وأصبح أخضر اللون فقط! وقال إن لحيوانات المزرعة عادة سخيفة في مخاطبة بعضها بعضا بلقب "رفيق"، واعتادت أن تنظم مسيرة كل صباح يوم أحد، وهي عادة دخيلة ولا يعرف لها أصل، لذلك سيأمر بإلغاء هاتين العادتين. وأضاف:ـ إن لديه تحفظاً واحداً على حديث ضيفنا الودي، فقد دأب جاري العزيز طوال حديثه على الإشارة إلى المزرعة باسم "مزرعة الحيوان". واسـتدرك وهو ينظر الى بيلكينجتون مباشرة:ـ أنّى لك يا سيدي أن تعلم أني وفي حضوركم.. هنا والآن قررت إلغاء اسم "مزرعة الحيوان"، وأعلنُ، ولأول مرة، أن مزرعتنا هذه ستعرف من الآن فصاعداً باسم "ضيعة الخنازير". وختم حديثه بقوله:ـ أيها السادة أدعوكم إلى شرب النَخْب نفسه، لكن على نحو مختلف. املأوا كؤوسكم، واشربوا معي نخْبَ ازدهار ونجاح "ضيعة الخنازير". وتعالت صيحات الابتهاج والهتاف وأفرغت الكؤوس حتى الثُّمالَةَ.وبينما كانت الحيوانات تتابع مشهد الاحتفاء بتغيير الاسم، وهي تُحدِّق في وجوه المحتفلين بدا لها أن ثمة أمراً غريباً طرأ على مظهر الخنازير. تُرى ما الذي يبدو مختلفاً في وجوهها؟ ظلت كلوفر وهي تبحث عن إجابة لذلك السؤال تنقل عينيها المتعبتين بثقل السنين ووطأة الكد بين وجه وآخر: بعضها لها خمسة ذقون، وأخرى لها أربعة، وللبعض منها ثلاثة ذقون. بيد أن ما كان يبعث على الحيرة والدهشة هو التبدل الذي كان يطرأ على الوجوه، فقد بدت ملامح المحتفين قريبة الشبه بعضها من البعض الآخر.. لا فرق بين حيوان وإنسان! وبعد أن هدأت صيحات شـرب الأنخاب، عادت الخنازير وضيوفها من البشر إلى الطاولة لمتابعة لعب الورق. وانكفأت الحيوانات التي تزاحمت خلف النافذة بصمت إلى حظائرها وقد أخذ منها هول ما رأت مأخذا، ولكنها ما إن ابتعدت مسافة لا تزيد على عشرين ياردة حتى توقفت، ثم اندفعت عائدة إلى البيت ونظرت من خلف النوافذ مرة أخرى. أجل.. لقد اختلف المجتمعون وكانوا على وشك النزاع: صياح وهياج.. صخب وغضب، وضرب عنيف على الطاولة، وأصوات مرتفعة تتبادل الاتهامات، وأخرى تكذبها. وبدا أن وراء ذلك الخلاف نابولين وبيلكينجتون اللذان لعبا ورقة "آس السباتي" في الوقت نفسه!كان هناك اثنا عشر صوتا يصرخ بعضها في وجوه البعض بحدة وغضب.. وجوه كانت جميعها متشابهة. وأخذت الحيوانات تنقل نظرها من وجه خنزير إلى وجه إنسان، ومن وجه إنسان إلى وجه خنزير، ومن خنزير إلى إنسان ومن إنسان إلى خنزير مرة أخرى، ولم تعد الآن بحاجة إلى تفسير ما طرأ من تغيير على الخنازير، بعد أن أصبح من المستحيل التمييز بينها وبين البشر!


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق